الورشة
"""""""""""
ألا تحسن غير هذه الخطوط وتلك الرسوم.. ؟ ...قالت أمه وهي تناديه لوجبة عشاء ...نهض وقد تمطى بصلبه واسترق نظرة حذر أن تصدر ملامة أخرى من والده ثم تقدم إلى الخوان بين إخوته ..وراح يرفع اللقمة إلى فيه وجلا أو بالأحرى خجلا من وضعه داخل أسرته ...وأحيانا تحدث نظرات والده الثاقبة في حلقه غصة يهرع حالها إلى كوب ماء يخفف به الوطء ...
فمنذ تخرجه لم يجد عملا قارا يحفظ به كرامته ويسد به حاجته ويدعم به أسرته كثيرة العدد ...
وبمشقة عمد إلى كراء محل بالجوار اتخذه ورشة يرسم فيها ما جادت به القريحة ويتفنن في خطوط عديدة أتقنها بعد سجال طويل ....واقتنى لأجلها كتبا ومجلات ومختلف الأدوات حتى صار مشهورا بين أترابه وبني بلدته ..بما تجود به أنامله ( خطا ورسما)...لكنه بالمقابل لم يكن ليوفر مالا مما يجنيه أحيانا ،رغم انه كثيرا ما يبيع لوحة فنية او يخطط لافتة أو تذكارا أو حتى هدية أو تكريما ...
بيد ان ذاك السيجار اللعين وتلك السهرات الماجنة وتلك الأبهة التي كان يعشقها في هندامه ...كل ذلك قلل من ريعه.
كان له صديق وفي يجالسه كثيرا في ورشته تلك ، يلتقيان كل مساء يحتسيان أقداحا من القهوة ويتجاذبان ما تشعب من حديث وخاصة عن المباريات الكروية ...ليعود كل منهما إلى بيته وفي الغد برنامج آخر مغاير ...
ذات أمسية أوت إليه أمه الغالية معاتبة ناصحة وقد أوصدت باب غرفته ....
اي بني : لقد كبرت ونضجت فلما لا تتزوج ؟
_طأطأ رأسه متمتما : كيف ذلك وأنت تعلمين حالي ...فلا مال لي .
_قم ببيع لوحاتك ومخطوطاتك وأدواتك والبقية يكفلها والدك..
_ حرك رأسه موحيا بالقبول..
نهضت الأم وقد طبعت على خده قبلة وداعبت شعر رأسه قائلة : ليس هنالك حل آخر ...
صوبت الأم عينيها نحو فتاة من الجيران واصطحبت الوالد لخطبتها ولم يكن الشاب ليرفض لما يعرفه عن الفتاة من حسن سجية وخُلق كريم وخّلق بهي سليم ...
راح الفتى يكمل بعض اللوحات ويتم ما بدأه من ومضات إشهارية ولافتات لمحلات في وسط المدينة ..
حدٌث صاحبه فيما نواه فظل يساعده في أعماله ...وجرت أمور الصديقين على قدم وساق وراحا يسابقان الزمن في إتمام بعض الطلبيات .
ذات ليلة تأخر فيها الرفيقان في الورشة على غير العادة ،وقد تناولا وجبة خفيفة من مطعم قريب ...واستغرقا في إتمام عمل عاجل ...
رجلان وراء الباب الزجاجي يطرق أحدهما عليه طرقا خفيفا ،فتح الصديق الباب ورحب بهما رغم ضيق الورشة وفوضاها ...
كانت تحيتهما جافة فيها نوع من العجرفة والكبر ،لكن صاحب الورشة أخفى امتعاظه حتى يعلم مبتغاهما ....
بعد تبادل حديث جاد وقع نقاش حاد بين الدخيلين والصديقين تطور إلى شجار عنيف أبلى فيه الصديق حسنا... وتمكن الإثنان من طرد الضيفين الثقيلين بعد أن أبرحاهما ضربا ...ثم تدخل بعض أفراد الحي لفض الشجار ...
كان طلب الغريبين غريبا كحاليهما ،فقد جلبا لذاك الفنان صكا بريديا وأوراقا نقدية طلبا منه تقليدها وتزوير ما أمكن منها .....
وهذا ما أثار حفيظته وغيظه فوقع ما وقع ...في البيت قص الشاب الحادثة على أمه فأصابها ذعر كبير ....وأوصته بالحيطة والحذر وألا يطيل السهر خارجا ...
ألصق الشاب على باب ورشته لافتة ( للبيع) مزودة برقم هاتفه ...
وفي صبيحة أحد الأيام جاءه اتصال هاتفي فظن أنه أحد المساومين ....لم يكن الرقم مدونا في مفكرته..
وكم كان الخبر صادما له ...صاح أحد جيران ورشته قائلا :
ألو ....فلان ورشتك أصبحت ركاما ..
أخفى الأمر عن كافة العائلة وهرول مسرعا ليجد ورشتة قد احترقت ...ونفر كبير من الناس مجتمعون.. وسرعان ما اتصل أحدهم بالشرطة والحماية ....
أثناء التحقيق لم تذكر سوى حادثة تلك الليلة وذاك الشجار العنيف ...فسجلت القضية ضد المشتبهين ، أما عن ذاك الخطاط فقد اصيب باحباط كبير ولم يعد يهمه حتى وإن أعدما .. واضطر إلى فسخ خطوبته وحزم امتعته مغادرا مدينته إلى وجهة مجهولة .....
""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
مقدير إبراهيم ...
"""""""""""
ألا تحسن غير هذه الخطوط وتلك الرسوم.. ؟ ...قالت أمه وهي تناديه لوجبة عشاء ...نهض وقد تمطى بصلبه واسترق نظرة حذر أن تصدر ملامة أخرى من والده ثم تقدم إلى الخوان بين إخوته ..وراح يرفع اللقمة إلى فيه وجلا أو بالأحرى خجلا من وضعه داخل أسرته ...وأحيانا تحدث نظرات والده الثاقبة في حلقه غصة يهرع حالها إلى كوب ماء يخفف به الوطء ...
فمنذ تخرجه لم يجد عملا قارا يحفظ به كرامته ويسد به حاجته ويدعم به أسرته كثيرة العدد ...
وبمشقة عمد إلى كراء محل بالجوار اتخذه ورشة يرسم فيها ما جادت به القريحة ويتفنن في خطوط عديدة أتقنها بعد سجال طويل ....واقتنى لأجلها كتبا ومجلات ومختلف الأدوات حتى صار مشهورا بين أترابه وبني بلدته ..بما تجود به أنامله ( خطا ورسما)...لكنه بالمقابل لم يكن ليوفر مالا مما يجنيه أحيانا ،رغم انه كثيرا ما يبيع لوحة فنية او يخطط لافتة أو تذكارا أو حتى هدية أو تكريما ...
بيد ان ذاك السيجار اللعين وتلك السهرات الماجنة وتلك الأبهة التي كان يعشقها في هندامه ...كل ذلك قلل من ريعه.
كان له صديق وفي يجالسه كثيرا في ورشته تلك ، يلتقيان كل مساء يحتسيان أقداحا من القهوة ويتجاذبان ما تشعب من حديث وخاصة عن المباريات الكروية ...ليعود كل منهما إلى بيته وفي الغد برنامج آخر مغاير ...
ذات أمسية أوت إليه أمه الغالية معاتبة ناصحة وقد أوصدت باب غرفته ....
اي بني : لقد كبرت ونضجت فلما لا تتزوج ؟
_طأطأ رأسه متمتما : كيف ذلك وأنت تعلمين حالي ...فلا مال لي .
_قم ببيع لوحاتك ومخطوطاتك وأدواتك والبقية يكفلها والدك..
_ حرك رأسه موحيا بالقبول..
نهضت الأم وقد طبعت على خده قبلة وداعبت شعر رأسه قائلة : ليس هنالك حل آخر ...
صوبت الأم عينيها نحو فتاة من الجيران واصطحبت الوالد لخطبتها ولم يكن الشاب ليرفض لما يعرفه عن الفتاة من حسن سجية وخُلق كريم وخّلق بهي سليم ...
راح الفتى يكمل بعض اللوحات ويتم ما بدأه من ومضات إشهارية ولافتات لمحلات في وسط المدينة ..
حدٌث صاحبه فيما نواه فظل يساعده في أعماله ...وجرت أمور الصديقين على قدم وساق وراحا يسابقان الزمن في إتمام بعض الطلبيات .
ذات ليلة تأخر فيها الرفيقان في الورشة على غير العادة ،وقد تناولا وجبة خفيفة من مطعم قريب ...واستغرقا في إتمام عمل عاجل ...
رجلان وراء الباب الزجاجي يطرق أحدهما عليه طرقا خفيفا ،فتح الصديق الباب ورحب بهما رغم ضيق الورشة وفوضاها ...
كانت تحيتهما جافة فيها نوع من العجرفة والكبر ،لكن صاحب الورشة أخفى امتعاظه حتى يعلم مبتغاهما ....
بعد تبادل حديث جاد وقع نقاش حاد بين الدخيلين والصديقين تطور إلى شجار عنيف أبلى فيه الصديق حسنا... وتمكن الإثنان من طرد الضيفين الثقيلين بعد أن أبرحاهما ضربا ...ثم تدخل بعض أفراد الحي لفض الشجار ...
كان طلب الغريبين غريبا كحاليهما ،فقد جلبا لذاك الفنان صكا بريديا وأوراقا نقدية طلبا منه تقليدها وتزوير ما أمكن منها .....
وهذا ما أثار حفيظته وغيظه فوقع ما وقع ...في البيت قص الشاب الحادثة على أمه فأصابها ذعر كبير ....وأوصته بالحيطة والحذر وألا يطيل السهر خارجا ...
ألصق الشاب على باب ورشته لافتة ( للبيع) مزودة برقم هاتفه ...
وفي صبيحة أحد الأيام جاءه اتصال هاتفي فظن أنه أحد المساومين ....لم يكن الرقم مدونا في مفكرته..
وكم كان الخبر صادما له ...صاح أحد جيران ورشته قائلا :
ألو ....فلان ورشتك أصبحت ركاما ..
أخفى الأمر عن كافة العائلة وهرول مسرعا ليجد ورشتة قد احترقت ...ونفر كبير من الناس مجتمعون.. وسرعان ما اتصل أحدهم بالشرطة والحماية ....
أثناء التحقيق لم تذكر سوى حادثة تلك الليلة وذاك الشجار العنيف ...فسجلت القضية ضد المشتبهين ، أما عن ذاك الخطاط فقد اصيب باحباط كبير ولم يعد يهمه حتى وإن أعدما .. واضطر إلى فسخ خطوبته وحزم امتعته مغادرا مدينته إلى وجهة مجهولة .....
""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""""
مقدير إبراهيم ...
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق