السبت، 3 مارس 2018

سورة النصر ... تأملات للباحث والشاعر / محمد سعيد أبوالنصر


سورة النصر
بقلم / محمد سعيد أبوالنصر

بين يدي السورة
سورة النصر مدنية، وآياتها ثلاث وتعدل ربع القرآن، و" إذا زلزلت " تعدل ربع القرآن. ، وهي تتحدث عن " فتح مكة " الذي عز به المسلمون ، وانتشر الإسلام في الجزيرة العربية ، وتقلمت أظافر الشرك والضلال ، وبهذا الفتح المبين ، دخل الناس في دين الله ، وارتفعت راية الإسلام ، واضمحلت ملة الأصنام ، وكان الإخبار بفتح مكة قبل وقوعه ، من أظهر الدلائل على صدق نبوته ، عليه أفضل الصلاة والسلام.
سورة النصر آخر سورة نزلت من القرآن
روي مسلم والنسائي: عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس: يا ابن عتبة، أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت ؟ قلت: نعم، " إذا جاء نصر الله والفتح " قال: صدقت 
وقال الطبراني: عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت من القرآن جميعا: {إذا جاء نصر الله والفتح} 
وروى الحافظ أبو بكر البزار والبيهقي عن ابن عمر قال: أنزلت هذه السورة: " إذا جاء نصر الله والفتح " على رسول الله صلى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق، فعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت، ثم قام فخطب الناس، فذكر خطبته المشهورة 
بسم الله الرحمن الرحيم
{إذا جاء نصر الله والفتح (1) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا (2) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا (3) }
{إذا جاء نصر الله والفتح (1)}
هذه السورة الكريمة فيها نعي النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا تسمى سورة (التوديع) وهذا المعنى للسورة هو ما فسره ابن عباس وعمر، رضي الله عنهما، ،وحين نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة: ما أراه إلا حضور أجلي، وقال ابن عمر: نزلت هذه السورة بمنى في حجة الوداع، ثم نزلت {اليوم أكملت لكم دينكم} [المائدة: 3] الآية فعاش بعدهما النبي صلى الله عليه وسلم ثمانين يوما. وروى الإمام البخاري عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه،(فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -:) (لم تدخل هذا الفتى معنا , ولنا أبناء مثله؟)فقال عمر: إنه من حيث تعلم) أو فقال عمر: إنه ممن قد علمتم فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم، فما رؤيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال: ما تقولون في قول الله، عز وجل: {إذا جاء نصر الله والفتح} ؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. فقال: ما تقول؟ فقلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له، قال: {إذا جاء نصر الله والفتح} فذلك علامة أجلك، {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} فقال عمر بن الخطاب: لا أعلم منها إلا ما تقول. تفرد به البخاري 
وقال الحافظ البيهقي: عن ابن عباس قال: لما نزلت: " إذا جاء نصر الله والفتح " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة ابنته وقال: "إنه قد نعيت إلي نفسي"، فبكت ثم ضحكت، وقالت: أخبرني أنه نعيت إليه نفسه فبكيت، ثم قال: "اصبري فإنك أول أهلي لحاقا بي" فضحكت "
وقال الإمام أحمد: عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إذا جاء نصر الله والفتح} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعيت إلي نفسي".. بأنه مقبوض في تلك السنة. تفرد به أحمد 
وقال ابن جرير: عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: "الله أكبر، الله أكبر! جاء نصر الله والفتح، جاء أهل اليمن". قيل: يا رسول الله، وما أهل اليمن؟ قال: "قوم رقيقة قلوبهم، لينة طباعهم، الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية" 
وقال الطبراني والنسائي عن ابن عباس قال: لما نزلت: {إذا جاء نصر الله والفتح} حتى ختم السورة، قال: نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه حين نزلت، قال: فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادا في أمر الآخرة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: "جاء الفتح ونصر الله، وجاء أهل اليمن". فقال رجل: يا رسول الله، وما أهل اليمن؟ قال: ""قوم رقيقة قلوبهم، لينة قلوبهم ، الإيمان يمان، والفقه يمان" 
" والمعنى "اعلم أنك إذا فتحت مكة -وهي قريتك التي أخرجتك-ودخل الناس في دين الله أفواجا، فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا، فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا، فالآخرة خير لك من الدنيا، ولسوف يعطيك ربك فترضى، ولهذا قال: {فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا} .
{إذا جآء نصر الله والفتح} الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يذكره ربه بالنعمة والفضل عليه وعلى سائر المؤمنين، والمعنى: إذا نصرك الله يا محمد على أعدائك، وفتح عليك مكة أم القرى قال المفسرون: الإخبار بفتح مكة قبل وقوعه إخبار بالغيب، فهو من أعلام النبوة 
قال القرطبي : " وإذا بمعنى قد، أي قد جاء نصر الله، لأن نزولها بعد الفتح.
والذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر، رضي الله عنهم أجمعين، من أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا المدائن والحصون أن نحمد الله ونشكره ونسبحه، يعني نصلي ونستغفره -معنى مليح صحيح، وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات، فقال قائلون: هي صلاة الضحى. وأجيبوا بأنه لم يكن يواظب عليها، فكيف صلاها ذلك اليوم وقد كان مسافرا لم ينو الإقامة بمكة؟ ولهذا أقام فيها إلى آخر شهر رمضان قريبا من تسعة عشر يوما يقصر الصلاة ويفطر هو وجميع الجيش، وكانوا نحوا من عشرة آلاف. قال هؤلاء: وإنما كانت صلاة الفتح، قالوا: فيستحب لأمير الجيش إذا فتح بلدا أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات.
وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن، ثم قال بعضهم: يصليها كلها بتسليمة واحدة. والصحيح أنه يسلم من كل ركعتين، كما ورد في سنن أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم يوم الفتح من كل ركعتين.
{إذا جآء نصر الله والفتح}
والمراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولا واحدا، وفي الآية ذكر للخاص بعد العام في قوله {نصر الله والفتح} نصر الله يشمل جميع الفتوحات فعطف عليه (فتح مكة) تعظيما لشأن هذا الفتح واعتناء بأمره. 
وقوله {ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} إطلاق العموم وإرادة الخصوص {ورأيت الناس} لفظ الناس عام والمراد به العرب. ودين الله هو الإسلام وقوله {يدخلون في دين الله} أضاف الدين اليه تشريفا وتعظيما، كبيت الله وناقة الله. والمعنى ورأيت العرب يدخلون في الإسلام جماعات جماعات من غير حرب ولا قتال، وذلك بعد فتح مكة صارت العرب تأتي من أقطار الأرض طائعة فأحياء العرب كانت تتلوم(تنتظر) بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبي. فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام، ولله الحمد والمنة. 
وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة، يقولون: دعوه وقومه، فإن ظهر عليهم فهو نبي. الحديث.
وقال الإمام أحمد بسنده حدثني جار لجابر بن عبد الله قال: قدمت من سفر فجاءني جابر بن عبد الله، فسلم علي أويسلم على ، فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس دخلوا في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا"
وقوله {فسبح بحمد ربك} أي فسبح ربك وعظمه ملتبسا بحمده على هذه النعم، واشكره على ما أولاك من النصر على الأعداء، وفتح البلاد، وإسلام العباد {واستغفره} أي اطلب منه المغفرة لك ولأمتك 
{إنه كان توابا} أي إنه جل وعلا كثير التوبة، عظيم الرحمة لعباده المؤمنين. وكلمة " توابا "صيغة مبالغة { لأن صيغة «فعال» للمبالغة. 
وقال البخاري {إنه كان توابا} إنه تواب على العباد والتواب من الناس: التائب من الذنب. 
وقال البخاري عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن.وأخرجه بقية الجماعة إلا الترمذي، من حديث منصور، به 
وقال الإمام أحمد عن مسروق قال: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه". وقال: "إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره، إنه كان توابا، فقد رأيتها: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا}ورواه مسلم

ليست هناك تعليقات:

اضافة تعليق

جميع الحقوق محفوظة © 2013 منارة القلم الفصيح
تصميم : يعقوب رضا