بداية بلانهاية
"الفصل التاسع "
"الفصل التاسع "
استطاعت ناريمان أن تتواصل معي ولكن في حدود ضيقة حيث كان يحدد لها أوقاتا معينة لاستخدام الحاسوب ويضعها تحت مراقبته..غير أني وجدت في نفسي بعض الغرابة من تسليمه الحاسوب لها رغم علمه بإمكانية أن تتواصل مع الأهل والأصدقاء ..وربما استطاعت باستخدام التكنولوجيا الخاصة "بالشبكة العنكبوتية" التوصل إلى مكان وجودهما أو معرفة بعض التفاصيل عن مكانهما..وقد أثار ذلك بعض علامات الاستفهام لدي في بادئ الأمر..غير أنى حاولت تجاوز هذا الأمر وعزيت هذا التصرف الغريب إلى خوفه الحقيقي علي صحتها ومراعاة لعدم تدهور حالتها .. ولكن يبدو أنني تعاملت مع الأمر بكثير من حسن النية وكان يجب أن أكون أكثر حذرا خاصة مع إدراكنا أننا نتعامل مع عقلية إجرامية تطوع الظروف لخدمة أغراضها.. فقد اكتشفنا بعد برهة من الوقت المغزى الحقيقي وراء تركه الحاسوب مع ناريمان..وأدركنا أننا وقعنا في فخ نصب لنا بإحكام ...وعلى الرغم من تحذيري ناريمان من هذا الشراك وتأكيدي عليها أن تتيقن من وجودنا في مأمن منه..غير أنها أفاضت في بعث الطمأنينة في قلبي من الوقوع في هذه الخدعة..وربما لجأت لذلك من خوفها أن أكف عن تواصلي معها وهي في محبسها لاتجد من يشاركها الحديث أو يشد من عزمها ويبثها أمن وقوة تجعلها تتحمل هذه الفترة العصيبة من حياتها..أوربما أفاضت في حسن النية مثلما فعلت .
فقد استغل البروفيسور لحظات مرضها وضعفها وعدم وعيها الكامل بعد غيبوبتها وحصل منها على "كلمة السر" الخاصة بصفحتنا على موقع التواصل الاجتماعي دون أن تعي هي ذلك ..وأستطاع بهذه الحيلة أن يتوصل إلى أسرارنا وينفذ إلى خططنا ويتجسس على مكالمتنا..وربما خطط لهذا وكان هو هدفه الحقيقي من وراء تركه حاسوبه معها وتسليمها اياه.
وقد استطاعت ناريمان معرفة مخططه والتوصل إلى حقيقة تتبع محادثاتنا ومعرفة ما يدور بيننا وإفساده مخططاتنا..وذلك حينما منع منها الحاسوب بعد علمه بمحادثة بيننا كادت أن تكشف عن عنوانها في البلد الذي يعيشون فيه..فقد أوعزت لها أن تطلب من الخادمة شراء نوع معين من الأغذية المغلفة أو العصائر أو شيء نستطع أن نعرف من خلال غلافه أو عبوته مكان تصنيعه أو عنوان المتجر الذي يبيعه..واستطعنا بذلك أن نحدد علامة تجارية لأحد المحلات المتواجدة في هذا البلد..وعن طريق عنوان هذا المتجر توصلنا إلي القطر الذي اختطفت إليه ولا يزالا يقيمان به .
وقد كشف لها البروفيسور عن علمه بما يدور بيننا وما نتناقله من أخبار..وذلك بعد مناقشة ساخنة بينهم وشجار عنيف على إثر محاولته منعها استخدام الحاسوب مرة أخري .
على الجانب الأخر كانت عائلتها تحاول جاهدة إيجاد مخرج لابنتهم ينقذها من معاناتها ويردها سالمة إليهم..وقد تسببت أطاله مده اختطافها وعدم جدوى محاولات الشرطة من الوصول إليها أن بدأت الأمور تخرج عن نصابها ويزداد الشحن النفسي وانفلات الأعصاب..وهذا ما دفع شقيقها ياسين لمحاولة معرفة مكانها بالضغط على أهل البروفيسور علهم يعترفون له بمكانهما أو يفيدونه بمعلومة تساعده في التوصل إليهم .. وقد أخذته الحمية والغضب وذهب لبيتهم بمفرده دون أن يصطحب معه أحد من الأهل أو الحرس الخاص به..ودارت بينه وأهل البروفيسور مناقشة حادة سرعان ما تحولت لمشادة حامية أحتد فيها الطرفان واستشاطا غضبا..فما كان من أحد أفراد عائلتهم أن قام بطعن ياسين بسكين طعنات نافذة بالصدر..أصابته إصابة بالغة نقل على إثرها إلى العناية المركزة بالمستشفى بين الحياة والموت .
بداء إحساس اليأس يدب في نفوسنا ..وأزداد الأمر سوءا وتعقدت الأمور..فجميع الطرق باتت مغلقة في وجوهنا ..فالشرطة تقف عاجزة عن معرفة مكانهم ..وقد استنزفت محاولاتي للتوصل إليهما ..وعائلتها تقف حائرة لاتملك من أمرها شيئا خاصة وقد أضيف لمصائبهم مصيبة جديدة وأصبحوا بين ناريين ...نار اختطاف ابنتهم وجهلهم مكانها وخوفهم عليها نوائب ما تحمله الأيام القادمة..ومصيبة شقيقهم الأكبر سندهم في الحياة الذي يرقد غائب عن الوعي لايدرك من أمره شيئا ..يتأرجح بين موت وحياة يتجاذبانه ..وعلى الجانب الأخر فأن البروفيسور أخذا في السير قدما لتحقيق هدفه ويصر عليه إصرار من اكتسب حق وتملكه .
=====================
"الفصل العاشر"
سارت بنا الأيام على هذا الحال بطيئة كئيبة لا يغير من وقعها مغير ولا يكسر رتابتها جديد ..حتى جاء يوم أصبت فيه بحادث عارض أرقدني وغيبني عن الوعي عدة أيام جاوزت الأسبوعين..حيث كنت أشارك في إحدى المظاهرات التي تجتاح وطننا هذه الأيام وباتت سمة من سمات حياتنا..وذلك بعد قيام ثورة مصر العظيمة التي أبهرت العالم في 25 يناير 2011 واستطاعت إزاحة حكم نظام فاسد دام أكثر من ثلاث عقود..وتبعتها ثورة 30 يونيو 2013 لتصحيح المسار..وأعقبها فترة من القلاقل بين مؤيدي الثورة ..ومعارضيها من أنصار جماعة الإخوان المسلمين..اللذين أطيح بهم بعد حكم لم يدم أكثر من عام..وخلال هذه الفترة كثرت المواجهات الدامية بين الطرفين وأخلفت الكثير من القتلى والجرحى ..وتعددت المظاهرات تملئ شوارع وميادين مصر ..وكنت أشارك في بعض هذه المظاهرات السلمية معبرا عن وجهتي ورأيي كمواطن من أبناء هذا الشعب العظيم..وفي إحدى هذه المظاهرات تعرضت المسيرة فجأة لأحداث عنف وإطلاق أسلحة نارية من جانب أفراد من الطرف الأخر..وحدث تدافع بين المتظاهرين ومحاولة الهروب والنجاة بأنفسهم من الرصاص المنطلق من كل مكان حولنا..وأدت حالة الهرج والمرج التي أصابت الجميع إلي تساقط العشرات نتيجة دفع بعضهم بعض..وكنت أحد هؤلاء ..وأصبت ببعض الكسور والكدمات في مختلف أجزاء جسدي دخلت على إثرها في غيبوبة أرقدتني في المستشفي لأكثر من أسبوعين تغيبت فيها عن العالم الخارجي .
علمت ناريمان بما حدث معي من صديقة لنا على علم بقصتنا وتعلم جميع تفاصيلها وما آلم بنا من مصائب القدر ..غير أن ناريمان لم تتحمل صدمة خبر إصابتي ..وإضافة مصيبة جديدة على مصائبها الكثيرة التي أحلت بها ..ولم تتمالك نفسها واجتاحتها أزمة نفسية شديدة أصابتها بصدمة عصبية أفقدتها حركة قدميها وأصابتها بشلل في ذراعها الأيمن..وحدث ما كنا نحاول أن نتجنبه وحذرنا منه أطباؤها من ضرورة المحافظة على هدوء أعصابها وعدم تعرضها لانفعالات حادة تؤثر على نجاح العملية التي أجريت لها مؤخرا واستطاعت أن تحرك بها قدميها وتبدأ في السير بها حتى كادت أن تقارب الشفاء لولا هذه الأحداث الجسام التي ألمت بها..وها هي تتعرض لانتكاسه حذر منها الأطباء وشددوا من خطورة نتائجها .
بعد مرور أسبوعين تماثلت للشفاء من الحادث الذي ألم بي وعدت الى إدراك ما حولي ..وكان أول سؤال لي عن ناريمان وصحتها ومآل إليها حالها مع سجانها..وهل أطلق سراحها وفك أسرها أم لا زالت على وضعها ؟ ..واستطعت أن أستقي أخر أخبارها من صديقتنا التي داومت على الاتصال بها ومتابعه أحوالها .
وبقدر الحزن الذي تملكني من تدهور حالتها الصحية وما أصابها وألم بها من شلل أقعدها وعاد بنا سيرتنا الأولى ..فقد سعدت بخبر آخر نقلته لنا صديقتنا عن عودة ناريمان إلى عائلتها ..واحتجازها في المستشفى لتلقى العلاج والعناية اللازمة بعدما وصلت إلى حالة كادت أن تودي بحياتها .
فقد علمت أن ناريمان قد امتنعت عن تناول الطعام والشراب بعد صدمتها بخبر إصابتي ..واستحضرت ما ألم بها من مصائب الدهر..فهاهي ترقد عاجزة لا تستطيع تحريك قدميها وذراعها وتنتظر معجزة من السماء لتعيد إليها حركتها ..وضاع حلمها ومستقبلها في أن تصبح طبيبة ويتحقق حلم ظل يراودها حتى اقتربت من تحقيقه وهاهو يتبخر أمام عينيها ..وشقيقها وسندها "ياسين " يرقد بين الحياة والموت لا يعي من أمره شيئا ..وها قد أصيب حبيبها مؤخرا ولا تعلم شيء عن مصابه ومدى خطورة حالته.....وبروفيسور معتوه ..متربص بها ..ينتظر تحقيق حلمه وذبح ضحيته بسكين بارد وقلب أعمى .
تجمع ذلك كله أمام عينيها..وتملكتها حالة من اليأس والزهد في الحياة..فقررت الانسحاب منها والامتناع عن الطعام والشراب..وساءت حالتها وتدهورت صحتها وباتت أقرب إلى الموت .
أيقن البروفيسور أن ناريمان مقدمة على الهلاك لامحالة وحاول أن يثنيها عن قرارها ولكن محاولاته باءت بالفشل..وخشي على حياتها مع اقترابها من الموت..فقرر العودة بها وتسليمها للمستشفى لمتابعتها والعناية بها..وفر هاربا تاركا وراءه بقايا إنسانة حطمت آمالها وأحلامها وباتت تنتظر معجزة من السماء تعيدها إلى حياتها التي سلبت منها وهى في أوج سعادتها .
وأقف عاجزا أرفع راياتي مستسلما لقدر ينازلني..وشريط من الأحداث يمر أمام عيني أجتر ذكرياته..وقلب يحترق..ودمعة رقراقة تتحجر في مقلتي.. ولا املك سوى رجاء وأمل أن تحل بنا معجزة تعيد لنا سعادتنا التي أبى القدر أن يتمها علينا وسلبتها منا الأيام ..ونتطلع معا للمستقبل بعيون زائغة..وقلوب وجلة..وشك يراودنا ..وثقة مفقودة تملأ نفوسنا ..فقد عشنا بداية قصتنا وفرحنا وسعدنا وتمنينا أن نتوج حبنا بنهاية سعيدة ترسم البسمة على وجوهنا..وشاءت الأقدار أن لا ينسدل الستار..وتظل قصتنا..بداية... بلا نهاية.
النهاية
نصر سليمان محمد
ليست هناك تعليقات:
اضافة تعليق